عندما تقترب من أحد منافذ محافظة القطيف تشعر بشيء مختلف، ليس لأن ملامح الواحة الخضراء تلوح في الأفق،ولكن لأن نقطة تفتيش من نوع خاص في استقبالك، طابور من سيارات المواطنين تنتظر وسيارات أمن متنوعة الأحجام والأشكال، وسلاح من الوزن المتوسط والخفيف مشهور في وجه القادمين. لن يخطئ إحساسك حين تميز أن حالة المواطنين مستقرة ولا يشعرون بأي قلق، فقد اعتاد أهالي المنطقة الشرقية لاسيما في محافظة القطيف على تلك المشاهد وذلك التعامل وتحديداً بعد خروج عدد من المواطنين في مظاهرات تجوب الشوارع وتطالب بشيء من الحرية والحقوق في مارس ٢٠١١م. قد تنفذ من نقطة التفتيش بمجرد نظرة مرتابة من رجل أمن عابس، ولكن لن تكون تلك هي آخر محطة تقف فيها أمام رجل بزي عسكري يسيرك بإيماءة من يده فيها الكثير من الإزدراء والإحتقار، وقد ينتاب أحدهم رغبة مزاجية يطالبك فيها بإبراز هويتك أو يوقفك ويقوم بتفتيش كامل السيارة متذرعاًَ بعبارة تعلو أغلب سيارات الأمن:" أمنكم هدفنا وتعاونكم مطلبنا". حين تدخل محافظة القطيف يلفت نظرك كثرة سيارات الأمن وحركتها السريعة والمريبة والتي تبث الرعب والخوف، وكأن أمراً ما قد حدث أو سيحدث، وعندما تتأمل لا تجد ما يستدعي كل ذلك الاستنفار فسرعان ما تستنتج أن تلك الحركات المثيرة لا تعدو كونها شكل أمني ومحاولة لإثبات حضور في وسط شوارع وأزقة محافظة القطيف وقراها.
الشعوب لا تصنع الثورة ولكن الإستبداد هو الذي يُخرج الثوار كما يخرج المارد من قمقمه، الحرمان هو الذي يؤسس للثورة والقهر هو الذي يصنع الثوار. وبالنسبة للنظام المستبد فإن القبضة الحديدية هي التي تعيد العبيد المارقين إلى أوكارهم، أما بالنسبة للشعوب التي تهمها كرامتها فإن آلة الترهيب هي ما يكشف الحقيقة التي كانت تتوارى خلف ملمعات ومحسنات إرهاب الدولة.
قد تبدو لك القطيف هادئة ولكنها في الحقيقة تعيش الحراك الحقيقي في دواخلها، احتقان وغضب خفي إزاء ردة الفعل الرسمية التي واجه بها النظام أهالي المنطقة حين حاولوا أن يستفيدوا من أجواء الربيع العربي بأن يرفعوا أصواتهم في الشوارع ويطالبوا بشيء من الحرية وشيء من الحقوق المنسية. رصاص ودماء ، جرحى وشهداء وشباب كالزهور خلف القضبان بالعشرات، جروح آلمت الناس وخلفت الحزن والأسى في قلوب الجميع. الحياة بشكلها الطبيعي والناس تسير كطبيعتها دون أن تعير لتظاهرة رجال الأمن العسكرية في مركز المدينة وضواحيها أي اعتبار، وهم فيما بينهم يتساءلون عن مدى جدوى ممارسات رجال الأمن هذه في قتل إرادة الشعب وثني عزيمته عن مواصلة الحراك؟ بات الناس يشعرون اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن الكلمة قد تجرح السيف وتكسر شوكته، وأن الموقف والصمود قد يسلب السلطان المستبد سلطانه وإن كان يملك ترسانة عسكرية لاقبل لشعب أعزل بها.
تلك هي صورة الشارع والحالة الأمنية القلقة التي يفتعلها النظام والتي تعايش معها أهالي المنطقة، ولكن تلك ليست هي كامل الصورة وفي العمق أشياء أخرى، فقد تغير حال الناس من الخوف من إسماع آذان الجدران إلى البوح والإعلان، وباتوا يرددون مسائل حقوقية ويتحدثون عن واجبات الدولة تجاه المواطنين وشرعية الحكم، ويشعرون بأن الكرامة هي أحد أهم أركان العيش بل هي أهم من الماء والخبز.
كثير من رجال المنبر وأرباب الفكر باتوا يقارعون صوت الرصاص المدوي في سماء المحافظة الوادعة بقوة الكلمة وبحقيقة ما يجب أن تكون عليه الدولة المدنية وكيف يجب أن تصان حقوق المواطنين، الكثير منهم بات يندد بشكل مباشر أو غير مباشر في السر أو في العلن إهانة المواطنين ويرفضون بأن تداس كرامة الناس أو أن تمس إنسانيتهم بالأذى. ويتساءل كثير من الحقوقيين والمفكرين عما حصدته المنطقة خلال الثامنين عاماً الماضية؟ كيف كانت وكيف أصبحت؟ بات الجميع يشعر بأن الخيرات التي كانت تزخر بها هذه المنطقة الغنية قد سلبت من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولا أرض لهم يطأون عليها تعود ملكيتها لهم بعد أن كانوا يعيشون في ثراها وتحت سمائها بكل كفاف وراحة. بلد الخير التي كانت سلة الغذاء لشبه جزيرة العرب وأعانت بخيراتها القانع والمعتر مراراً عبر القرون الماضية تسلب وتجرد وتنتهك، دون أن يعود إلى أهلها شيء من خيراتها!وماذا بعد المظاهرات والمطالبات العلنية في الشارع.. تتهم وتهان وتحارب إعلامياً وعسكرياً سراً وجهراً.
لقد تنبه الناس كبيرهم وصغيرهم لكل حق مهدور من حقوقهم، والثورة اليوم ليست كلها في الشارع كما قد يظن من يحكم على الأمور بظواهرها، فأولئك الذين يرفعون أصواتهم في المظاهرات أسبوعياً محافظين على ديمومة الحراك المطلبي ليسوا وحدهم فلم يعد الشارع هو محور الحراك وساحته الأخيرة، ولم تعد تلك الكتابات والرسومات الجدارية المناهضة لرموز الدولة هي وحدها مؤشر الحراك، لقد أثار هتاف الشارع والدماء التي سالت على أرض القطيف حركة فكرية شاملة وأيقظت كافة الشعب ورفعت من ثقته بنفسه وجددت قوته ورغبته في أن يكون كأي شعب يملك حرية الكلمة والمطلب، جولة بسيطة في أزقة الانترنت تكشف مدى ما أحدثه حراك شباب المنطقة الشرقية، لقد تجاوزت الثورة معناها التقليدي ومداها الجغرافي لتؤثر على العقول وتحدث ثورة فكرية جديدة ينتشي لها قاطن شبه الجزيرة في أقصى الجنوب. ولا نبالغ إذا قلنا بأن الحراك رفع سقف المطالب لدى كافة المفكرين والمنظرين في الشرقية وخارجها ولم يقتصر تأثيره على منظري التغيير بل وحتى على كتاب ومنظري الجهات الرسمية والذين يعملون على تبرير ما تقوم به السلطة على الدوام.
أهالي المنطقة الشرقية والذين عرف عنهم على مدى العصور والأزمان حبهم للعيش بأمان وبعدهم عن الإعتداء والتخريب وعيشهم كأسرة واحدة، قد ثاروا اليوم ضد خوفهم فأسقطوا الرهبة من نفوسهم. لم يكن ينوي أهالي المنطقة أن يسيروا في درب الثورة، فقط أرادوا أن يجنوا شيئاً يسيراً من حقوقهم في ظل الأجواء التي أتت بها رياح التغيير القادمة من القارة الأفريقية، لكن القتل والتنكيل والإهانة حفز في وجدانهم العزة والكرامة وعزز رغبتهم الحقيقية في عودة الحق كاملاً غير منقوص، ورجال الأمن الذين تراهم يجوبون الأزقة دون سبب إنما يبحثون عن هذا الفكر ليقتنصوه ويجهزوا عليه.
لم نسمع قط في تاريخ البشرية أن فكراً قد اغتيل بالناروالحديد، لكننا سمعنا كثيراً أن الدم قد انتصر مراراً على شفرة السيف التي لا تفصل إلا الأجساد. رجال الأمن مستمرون في تنكيلهم يخطفون تارة ويهينون تارة أخرى. والشعب يهمس في داخله قائلاً: وماذا بعد؟! بعضهم يقول لو أن النظام تنازل عن شيء من كبريائه واستجاب لبعض مطالب الناس بشيء بسيط كإخراج السجناء المنسيين والذين ظلوا في السجون بدون محاكمة لانتهى كل شيء ولعلا شأن الحاكم في نظرهم،ولكن يبدو أن سوء ظن الدولة في شعبها جعلها تسئ التصرف ولا تتعامل بالحكمة المناسبة.
القطيف وهي حاضرة الساحل الشرقي في جزيرة العرب عاشت المدنية لآلاف السنين وأهلها ككريات الدم البيضاء تعمل بالفطرة على لملمة بعضها بدون إيعاز أو توجيه، وعلى الرغم من أنهم قد حرموا من أن يقيموا أحزاب ونقابات وجمعيات سياسية إلا أن ذلك لم يغير من طبيعتهم الأصيلة وهي توحيد الصفوف ولملمة الشتات وخصوصاً في الأزمات، وقد وجدوا أنفسهم فجأة في أزمة إذ أن سوء تصرف الجهات الرسمية مع الحراك وضعهم في طريق ذات الشوكة بدون ميعاد، ويكفي أن تقترب منهم قليلاً لتعلم أنهم قد قبلوا التحدي ، ولن تخطئ أذنك حين تسمعهم يهمهمون بينهم و بين بعضهم البعض قائلين: نصف ثورة هلاك أمة.
[ينشر بالاتفاق مع مجلة "بدايات"]